فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة عبس:
الدرس الأول: 1- 16 حادثة الرسول مع ابن أم مكتوم:
{عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة}..
إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جدا. أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة. إنه معجزة، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض، والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية. ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى، ومعجزته الكبرى كذلك. ولكن هذا التوجيه يرد هكذا- تعقيبا على حادث فردي- على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة، هي الإسلام في صميمه. وهي الحقيقة التي أراد الإسلام- وكل رسالة سماوية قبله- غرسها في الأرض.
هذه الحقيقة ليست هي مجرد: كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب. إنما هي أبعد من هذا جدا، وأعظم من هذا جدا. إنها: كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي: أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السماء، غير مقيدة بملابسات أرضهم، ولا بمواضعات حياتهم، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات.
وهو أمر عظيم جدا، كما أنه أمر عسير جدا. عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء. مطلقة من اعتبارات الأرض. متحررة من ضغط هذه الاعتبارات.
ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري، وثقله على المشاعر، وضغطه على النفوس، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس، المنبثقة من أحوال معاشهم، وارتباطات حياتهم، وموروثات بيئتهم، ورواسب تاريخهم، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شدا، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس.
كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت- كي تبلغه- إلى هذا التوجيه من ربه؛ بل إلى هذا العتاب الشديد، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه!
وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه: إن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت- كي تبلغه- إلى تنبيه وتوجيه!
نعم يكفي هذا. فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها، تجعل الأمر الذي يحتاج منها- كي تبلغه- إلى تنبيه وتوجيه أمرا أكبر من العظمة، وأرفع من الرفعة! وهذه هي حقيقة هذا الأمر، الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض، بمناسبة هذا الحادث المفرد.. أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله.. وهذا هو الأمر العظيم..
إن الميزان الذي أنزله الله للناس مع الرسل، ليقوموا به القيم كلها، هو: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.. هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقا..
ولكن الناس يعيشون في الأرض، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى؛ كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم. وهم يتعاملون بقيم أخرى.. فيها النسب، وفيها القوة، وفيها المال. وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية.. اقتصادية وغير اقتصادية.. تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض. فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض..
ثم يجيء الإسلام ليقول: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.. فيضرب صفحا عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس، العنيفة الضغط على مشاعرهم، الشديدة الجاذبية إلى الأرض. ويبدل من هذا كلهتلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء، المعترف بها وحدها في ميزان السماء!
ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسبة واقعية محددة. وليقرر معها المبدأ الأساسي: وهو أن الميزان ميزان السماء، والقيمة قيمة السماء. وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده!
ويجيء الرجل الأعمى الفقير.. ابن أم مكتوم.. إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش. عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي جهل عمرو بن هشام، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، ومعهم العباس بن عبد المطلب.. والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام؛ ويرجو بإسلامهم خيرا للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة؛ وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم؛ ويصدون الناس عنه، ويكيدون له كيدا شديدا حتى ليجمدوه في مكة تجميدا ظاهرا. بينما يقف الآخرون خارج مكة، لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها، وأشدهم عصبية له، في بيئة جاهلية قبلية، تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار.
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر. لا لنفسه ولا لمصلحته، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام. فلو أسلم هؤلاء لأنزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة؛ ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار..
يجيء هذا الرجل، فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله.. ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو فيه من الأمر. فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه. وتظهر الكراهية في وجهه- الذي لا يراه الرجل- فيعبس ويعرض. يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير. الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير؛ والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينه، وإخلاصه لأمر دعوته، وحبه لمصلحة الإسلام، وحرصه على انتشاره!
وهنا تتدخل السماء. تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر؛ ولتضع معالم الطريق كله، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم- بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات. بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر. بل كما يراها سيد البشر صلى الله عليه وسلم.
وهنا يجيء العتاب من الله العلي الأعلى لنبيه الكريم، صاحب الخلق العظيم، في أسلوب عنيف شديد. وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب: {كلا} وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين!
والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية. فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة. وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة. وفي عبارات متقطعة. وفي تعبيرات كأنها انفعالات، ونبرات وسمات ولمحات حية!
{عبس وتولى أن جاءه الأعمى}.. بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب- سبحانه- أن يواجه به نبيه وحبيبه. عطفا عليه، ورحمة به، وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه!
{وَمَا يُدْرِيكَ لعله يَزَّكَّى (3) أَوْ يذكر فتنفعه الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تصدى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)}
ثم يستدير التعبير- بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب- يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب. فيبدأ هادئا شيئا ما: {وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى}.. ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير. أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير- الذي جاءك راغبا فيما عندك من الخير- وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى. وما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور الله، فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه. وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله..
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته؛ وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب:
{أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى..} أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة.. أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره، وتجهد لهدايته، وتتعرض له وهو عنك معرض! {وما عليك ألا يزكى}.. وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه. وأنت لا تنصر به. وأنت لا تقوم بأمره.. {وأما من جاءك يسعى} طائعا مختارا، {وهو يخشى} ويتوقى{فأنت عنه تلهى}.. ويسمى الإنشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهيا.. وهو وصف شديد..
ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر: {كلا}.. لا يكن ذلك أبدا.. وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام.
ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها، واستغناءها عن كل أحد.
وعن كل سند وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها، كائنا ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا: {إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة}.. فهي كريمة في كل اعتبار. كريمة في صحفها، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها. وهم كذلك كرام بررة.. فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها، وما يمسها من قريب أو من بعيد. وهي عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها؛ فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها..
هذا هو الميزان. ميزان الله. الميزان الذي توزن به القيم والإعتبارات، ويقدر به الناس والأوضاع.. وهذه هي الكلمة. كلمة الله. الكلمة التي ينتهي إليها كل قول، وكل حكم، وكل فصل.
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة، والدعوة مطاردة، والمسلمون قلة. والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية؛ والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي. إنما هي الدعوة أولا وأخيرا. ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان، وإنما هي هذه القيم، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر. فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم..
ثم إن الأمر- كما تقدم- أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد، ومن موضوعه المباشر. إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية.. {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.. والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية. النسب والقوة والمال.. وسائر القيم الأخرى، لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى. والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنفقت لحساب الإيمان والتقوى.
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة، على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة، وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
ولقد انفعلت نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه، ولذلك العتاب. انفعلت بقوة وحرارة، واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها، وفي حياة الجماعة المسلمة. بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى.
وكانت الحركة الأولى له صلى الله عليه وسلم هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث. وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقا. أمر لا يقوى عليه إلا رسول، من أي جانب نظرنا إليه في حينه.
نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد، بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم- غير الرسول- أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل. ولكنها النبوة. أمر آخر. وآفاق أخرى!
لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}.. وهذا نسبه فيهم، لمجرد أنه هو شخصيا لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة!
ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء. فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض.. ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!!
وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه؛ فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيئة من حوله؛ فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع، يطرد به أزمانا طويلة في حياة الأمة المسلمة.
لقد كان ميلادا جديدا للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته. وأعظم منه خطرا في قيمته.. أن ينطلق الإنسان حقيقة- شعورا وواقعا- من كل القيم المتعارف عليها في الأرض، إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر. ثم إن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع، مسلما بها من الجميع. وأن يستحيل الأمر العظيم الذي احتاجت نفس محمد صلى الله عليه وسلم كي تبلغه إلى التنبيه والتوجيه، أن يستحيل هذا الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم، وشريعة المجتمع المسلم، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين.
إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد. لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب (التقدمية!) أن جانبا واحدا منها- هو الأوضاع الاقتصادية- هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق، وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة!
إنها المعجزة. معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان..
ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم.. ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية، ولا في المسلمين أنفسهم.. غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استطاع- بإرادة الله، وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت- أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة؛ وأن يحرسها ويرعاها، حتى تتأصل جذورها، وتمتد فروعها، وتظلل حياة الجماعة المسلمة قرونا طويلة.. على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه؛ ويقول له كلما لقيه: «أهلا بمن عاتبني فيه ربي» وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة..
ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها، زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية، لمولاه زيد بن حارثة. ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية. وفي البيئة العربية بصفة خاصة.
وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة، جعل عمه حمزة ومولاه زيدا أخوين. وجعل خالد بن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين!
وبعث زيدا أميرا في غزوة مؤتة، وجعله الأمير الأول، يليه جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة الأنصاري، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار، فيهم خالد بن الوليد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يشيعهم.. وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي الله عنهم.
وكان آخر عمل من أعماله صلى الله عليه وسلم أن أمر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وزيراه، وصاحباه، والخليفتان بعده بإجماع المسلمين. وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه صلى الله عليه وسلم ومن أسبق قريش إلى الإسلام.
وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث. وفي ذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما-: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا أمر عليهم أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلى. وإن هذا لمن أحب الناس إلى..»
ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي، وتحدثوا عن الفارسية والعربية، بحكم إيحاءات القومية الضيقة، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال: «سلمان منا أهل البيت» فتجاوز به- بقيم السماء وميزانها- كل آفاق النسب الذي يستعزون به، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها.. وجعله من أهل البيت رأسا!
ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح- رضي الله عنهما- ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة (يا بن السوداء).. غضب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا؛ وألقاها في وجه أبي ذر عنيفة مخيفة: يا أبا ذر طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل.. ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة.. إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء. وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض!
ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس؛ فانفعل لها أشد الانفعال، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال. تكفيرا عن قولته الكبيرة!
وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء.. عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة عندك. فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة». فقال: ما عملت في الإسلم عملا أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه: «ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب»..
وقال عنه: «ملئ عمار- رضي الله عنه- إيمانا إلى مشاشه»..
وعن حذيفة- رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي- وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما- واهتدوا بهدي عمار. وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه».
وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله.. عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومهم له.
وجليبيب- وهو رجل من الموالي- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار. فلما تأبى أبواها قالت هي: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. فرضيا وزوجاها.
وقد افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه.. عن أبي برزة الأسلمي- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزى له، فأفاء الله عليه. فقال لأصحابه: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» فقالوا: لا.
قال: «لكني أفقد جليبيبا» فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، ثم قال: «قتل سبعة ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه». ثم وضعه على ساعديه، ليس له سريرا إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم قال: فحفر له، ووضع في قبره ولم يذكر غسلا.
بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد. ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء، طليقا من قيود الأرض، بينما هو يعيش على الأرض.. وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام. المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله، وبعمل رسول. والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند الله، وأن الذي جاء به للناس رسول!
وكان من تدبير الله لهذا الأمر أن يليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأول أبو بكر، وصاحبه الثاني عمر.. أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر، وأشد اثنين انطباعا بهدى رسول الله، وأعمق اثنين حبا لرسول الله، وحرصا على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه.
حفظ أبو بكر- رضي الله عنه- عن صاحبه صلى الله عليه وسلم ما أراده في أمر أسامة. فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة، على رأس الجيش الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة. أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل. فيستحيي أسامة الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي. فيقول: (يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن).. فيقسم الخليفة: (والله لا تنزل. ووالله لا أركب. وما على أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؟)..
ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر. وقد حمل عبء الخلافة الثقيل. ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة. وأسامة هو الأمير. فلابد من استئذانه فيه. فإذا الخليفة يقول: (إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل).. يالله! إن رأيت أن تعينني فافعل.. إنها آفاق عوال، لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة الله، على يدي رسول من عند الله!
ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة.
ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء! فيأذن قبلهم لصهيب وبلال. لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر. فتورم أنف أبي سفيان، ويقول بانفعال الجاهلية: (لم أر كاليوم قط. يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه!).. فيقول له صاحبه- وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام: (أيها القوم. إني والله أرى الذي في وجوهكم. إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم. دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم. فأسرعوا وأبطأتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟).
ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر. حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك قال له: (يا بني. كان زيد- رضي الله عنه- أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك! وكان أسامة- رضي الله عنه- أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك! فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي).. يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان مقوما بميزان السماء!
ويرسل عمر عمارا ليحاسب خالد بن الوليد- القائد المظفر صاحب النسب العريق- فيلببه بردائه.. ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده.. وخالد لا يرى في هذاكله بأسا. فإنما هو عمار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال!
وعمر هو الذي يقول عن أبي بكر- رضي الله عنهما- هو سيدنا وأعتق سيدنا. يعني بلالا. الذي كان مملوكا لأمية بن خلف. وكان يعذبه عذابا شديدا. حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه..
وعنه يقول عمر بن الخطاب.. عن بلال.. سيدنا!
وعمر هو الذي قال: (ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته) يقول هذا، وهو لم يستخلف عثمان ولا عليا، ولا طلحة ولا الزبير.. إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحدا بذاته!
وعلى بن أبي طالب- كرم الله وجهه- يرسل عمارا والحسن بن على- رضي الله عنهما- إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة- رضي الله عنها- فيقول: (إني لأعلم أنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها).. فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين، وبنت الصديق أبي بكر- رضي الله عنهم جميعا.
وبلال بن رباح يرجوه أخوه في الإسلام أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن. فيقول لهم: (أنا بلال بن رباح، وهذا أخي أبو رويحة، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين. فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا).. فلا يدلس عليهم، ولا يخفي من أمر أخيه شيئا، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول.. فيطمئن القوم إلى هذا الصدق.. ويزوجون أخاه، وحسبهم- وهو العربي ذو النسب- أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه!
واستقرت تلك الحقيقة في المجتمع الإسلامي، وظلت مستقرة بعد ذلك آمادا طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة. وقد كان عبد الله بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمة. وكان عبد الله ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع. وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين. وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز. وفي البصرة كان الحسن البصري. وفي مكة كان مجاهد بن جبر، وعطاء بن رباح، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء. وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة..
وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها.. وفي اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم. ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريبا جدا بعد أن طغت الجاهلية طغيانا شاملا في أنحاء الأرض جميعا. وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية. وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية. أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها؛ وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها. وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى..
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية؛ وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة..
الدرس الثاني: 17- 23 تذكير الإنسان بأصله وتكريمه ورعاية الله له:
وبعد تقرير تلك الحقيقة الكبيرة في ثنايا التعقيب على ذلك الحادث، في المقطع الأول من السورة، يعجب السياق في المقطع الثاني من أمر هذا الإنسان، الذي يعرض عن الهدى، ويستغني عن الإيمان، ويستعلي على الدعوة إلى ربه.. يعجب من أمره وكفره، وهو لا يذكر مصدر وجوده، وأصل نشأته، ولا يرى عناية الله به وهيمنته كذلك على كل مرحلة من مراحل نشأته في الأولى والآخرة؛ ولا يؤدي ما عليه لخالقه وكافله ومحاسبه:
{قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره}..
{قتل الإنسان}.. فإنه ليستحق القتل على عجيب تصرفه.. فهي صيغة تفظيع وتقبيح وتشنيع لأمره. وإفادة أنه يرتكب ما يستوجب القتل لشناعته وبشاعته..
ما أكفره!.. ما أشد كفره وجحوده ونكرانه لمقتضيات نشأته وخلقته. ولو رعى هذه المقتضيات لشكر خالقه، ولتواضع في دنياه، ولذكر آخرته..
وإلا فعلام يتكبر ويستغني ويعرض؟ وما هو أصله وما هو مبدؤه؟
{من أي شيء خلقه}..
إنه أصل متواضع زهيد يستمد كل قيمته من فضل الله ونعمته، ومن تقديره وتدبيره:
{من نطفة خلقه فقدره}..
من هذا الشيء الذي لا قيمة له؛ ومن هذا الأصل الذي لا قوام له.. ولكن خالقه هو الذي قدره. قدره. من تقدير الصنع وإحكامه. وقدره: من منحه قدرا وقيمة فجعله خلقا سويا، وجعله خلقا كريما. وارتفع به من ذلك الأصل المتواضع، إلى المقام الرفيع الذي تسخر له فيه الأرض وما عليها.
{ثم السبيل يسره}..
فمهد له سبيل الحياة. أو مهد له سبيل الهداية. ويسره لسلوكه بما أودعه من خصائص واستعدادات. سواء لرحلة الحياة، أو للإهتداء فيها.
حتى إذا انتهت الرحلة، صار إلى النهاية التي يصير إليها كل حي. بلا اختيار ولا فرار:
{ثم أماته فأقبره}..
فأمره في نهايته كأمره في بدايته، في يد الذي أخرجه إلى الحياة حين شاء، وأنهى حياته حين شاء، وجعل مثواه جوف الأرض، كرامة له ورعاية، ولم يجعل السنة أن يترك على ظهرها للجوارح والكواسر. وأودع فطرته الحرص على مواراة ميته وقبره. فكان هذا طرفا من تدبيره له وتقديره.
حتى إذا حان الموعد الذي اقتضته مشيئته، أعاده إلى الحياة لما يراد به من الأمر:
{ثم إذا شاء أنشره}..
فليس متروكا سدى؛ ولا ذاهبا بلا حساب ولا جزاء.. فهل تراه تهيأ لهذا الأمر واستعد؟
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طعامه (24)}
{كلا لما يقض ما أمره}..
الإنسان عامة، بأفراده جملة، وبأجياله كافة.. لما يقض ما أمره.. إلى آخر لحظة في حياته. وهو الإيحاء الذي يلقيه التعبير بلما. كلا إنه لمقصر، لم يؤد واجبه. لم يذكر أصله ونشأته حق الذكرى.. ولم يشكر خالقه وهاديه وكافله حق الشكر. ولم يقض هذه الرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب والجزاء.. هو هكذا في مجموعه. فوق أن الكثرة تعرض وتتولى، وتستغني وتتكبر على الهدى!
الدرس الثالث: 24- 32 رعاية الله للإنسان والحيوان في الطعام:
وينتقل السياق إلى لمسة أخرى في مقطع جديد.. فتلك هي نشأة هذا الإنسان.. فهلا نظر إلى طعامه وطعام أنعامه في هذه الرحلة؟ وهي شيء واحد من أشياء يسرها له خالقه؟
{فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم}..
هذه هي قصة طعامه. مفصلة مرحلة مرحلة. هذه هي فلينظر إليها؛ فهل له من يد فيها؟ هل له من تدبير لأمرها؟ إن اليد التي أخرجته إلى الحياة وأبدعت قصته، هي ذاتها اليد التي أخرجت طعامه وأبدعت قصته..
{فلينظر الإنسان إلى طعامه}.. ألصق شيء به، وأقرب شيء إليه، وألزم شيء له.. لينظر إلى هذا الأمر الميسر الضروري الحاضر المكرر. لينظر إلى قصته العجيبة اليسيرة، فإن يسرها ينسيه ما فيها من العجب. وهي معجزة كمعجزة خلقه ونشأته. وكل خطوة من خطواتها بيد القدرة التي أبدعته:
إنا صببنا الماء صبا.. وصب الماء في صورة المطر حقيقة يعرفها كل إنسان في كل بيئة، في أية درجة كان من درجات المعرفة والتجربة. فهي حقيقة يخاطب بها كل إنسان. فأما حين تقدم الإنسان في المعرفة فقد عرف من مدلول هذا النص ما هو أبعد مدى وأقدم عهدا من هذا المطر الذي يتكرر اليوم ويراه كل أحد. وأقرب الفروض الآن لتفسير وجود المحيطات الكبيرة التي يتبخر ماؤها ثم ينزل في صورة مطر، أقرب الفروض أن هذه المحيطات تكونت أولا في السماء فوقنا ثم صبت على الأرض صبا!
وفي هذا يقول أحد علماء العصر الحاضر: إذا كان صحيحا أن درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوالي 12. 000 درجة. أو كانت تلك درجة حرارة سطح الأرض. فعندئذ كانت كل العناصر حرة. ولذا لم يكن في الإمكان وجود أي تركيب كيميائي ذي شأن. ولما أخذت الكرة الأرضية، أو الأجزاء المكونة لها في أن تبرد تدريجيا، حدثت تركيبات، وتكونت خلية العالم كما نعرفه. وما كان للأكسيجين والهيدروجين أن يتحدا إلا بعد أن هبطت درجة الحرارة إلى 4000 درجة فارنهايت.
وعند هذه النقطة اندفعت معا تلك العناصر، وكونت الماء الذي نعرفه الآن أنه هواء الكرة الأرضية. ولابد أنه كان هائلا في ذلك الحين. وجميع المحيطات كانت في السماء. وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت كانت غازات في الهواء. وبعد أن تكون الماء في الجو الخارجي سقط نحو الأرض. ولكنه لم يستطع الوصول إليها. إذ كانت درجة الحرارة على مقربة من الأرض أعلى مما كانت على مسافة آلاف الأميال. وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانيا في شكل بخار. ولما كانت المحيطات في الهواء فإن الفيضانات التي كانت تحدث مع تقدم التبريد كانت فوق الحسبان. وتمشى الجيشان مع التفتت..... الخ.
{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}
وهذا الفرض- ولو أننا لا نعلق به النص القرآني- يوسع من حدود تصورنا نحن للنص والتاريخ الذي يشير إليه. تاريخ صب الماء صبا. وقد يصح هذا الفرض، وقد تجد فروض أخرى عن أصل الماء في الأرض. ويبقى النص القرآني صالحا لأن يخاطب به كل الناس في كل بيئة وفي كل جيل.
ذلك كان أول قصة الطعام: {أنا صببنا الماء صبا}.. ولا يزعم أحد أنه أنشأ هذا الماء في أي صورة من صوره، وفي أي تاريخ لحدوثه؛ ولا أنه صبه على الأرض صبا، لتسير قصة الطعام في هذا الطريق!
{ثم شققنا الأرض شقا}.. وهذه هي المرحلة التالية لصب الماء. وهي صالحة لأن يخاطب بها الإنسان البدائي الذي يرى الماء ينصب من السماء بقدرة غير قدرته، وتدبير غير تدبيره. ثم يراه يشق الأرض ويتخلل تربتها. أو يرى النبت يشق تربة الأرض شقا بقدرة الخالق وينمو على وجهها، ويمتد في الهواء فوقها.. وهو نحيل نحيل، والأرض فوقه ثقيلة ثقيلة. ولكن اليد المدبرة تشق له الأرض شقا، وتعينه على النفاذ فيها وهو ناحل لين لطيف. وهي معجزة يراها كل من يتأمل انبثاق النبتة من التربة؛ ويحس من ورائه انطلاق القوة الخفية الكامنة في النبتة الرخية.
فأما حين تتقدم معارف الإنسان فقد يعن له مدى آخر من التصوير في هذا النص. وقد يكون شق الأرض لتصبح صالحة للنبات أقدم بكثير مما نتصور. إنه قد يكون ذلك التفتت في صخور القشرة الأرضية بسبب الفيضانات الهائلة التي يشير إليها الفرض العلمي السابق. وبسبب العوامل الجوية الكثيرة التي يفترض علماء اليوم أنها تعاونت لتفتيت الصخور الصلبة التي كانت تكسو وجه الأرض وتكون قشرتها؛ حتى وجدت طبقة الطمي الصالحة للزرع. وكان هذا أثرا من آثار الماء تاليا في تاريخه لصب الماء صبا. مما يتسق أكثر مع هذا التتابع الذي تشير إليه النصوص..
وسواء كان هذا أم ذاك أم سواهما هو الذي حدث، وهو الذي تشير إليه الآيتان السابقتان فقد كانت المرحلة الثالثة في القصة هي النبات بكل صنوفه وأنواعه. التي يذكر منها هنا أقربها للمخاطبين، وأعمها في طعام الناس والحيوان:
{فأنبتنا فيها حبا}.. وهو يشمل جميع الحبوب. ما يأكله الناس في أية صورة من صوره، وما يتغذى به الحيوان في كل حالة من حالاته.
{وعنبا وقضبا}.. والعنب معروف. والقضب هو كل ما يؤكل رطبا غضا من الخضر التي تقطع مرة بعد أخرى.. {وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا}.. والزيتون والنخل معروفان لكل عربي والحدائق جمع حديقة، وهي البساتين ذات الأشجار المثمرة المسورة بحوائط تحميها. و{غلبا} جمع غلباء. أي ضخمة عظيمة ملتفة الأشجار. والفاكهة من ثمار الحدائق و(الأب) أغلب الظن أنه الذي ترعاه الأنعام. وهو الذي سأل عنه عمر بن الخطاب ثم راجع نفسه فيه متلوما! كما سبق في الحديث عن سورة النازعات! فلا نزيد نحن شيئا!
هذه هي قصة الطعام. كلها من إبداع اليد التي ابدعت الإنسان. وليس فيها للإنسان يد يدعيها، في أية مرحلة من مراحلها.. حتى الحبوب والبذور التي قد يلقيها هو في الأرض.. إنه لم يبدعها، ولم يبتدعها. والمعجزة في إنشائها ابتداء من وراء تصور الإنسان وإدراكه. والتربة واحدة بين يديه، ولكن البذور والحبوب منوعة، وكل منها يؤتي أكله في القطع المتجاورات من الأرض. وكلها تسقى بماء واحد، ولكن اليد المبدعة تنوع النبات وتنوع الثمار؛ وتحفظ في البذرة الصغيرة خصائص أمها التي ولدتها فتنقلها إلى بنتها التي تلدها.. كل أولئك في خفية عن الإنسان! لا يعلم سرها ولا يقضي أمرها، ولا يستشار في شأن من شؤونها..
{فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يوم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يومئِذٍ شَأْنٌ يغنيه (37) وُجُوهٌ يومئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يومئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}
هذه هي القصة التي أخرجتها يد القدرة: {متاعا لكم ولأنعامكم}.. إلى حين. ينتهي فيه هذا المتاع؛ الذي قدره الله حين قدر الحياة. ثم يكون بعد ذلك أمر آخر يعقب المتاع. أمر يجدر بالإنسان أن يتدبره قبل أن يجيء:
الدرس الرابع: 33- 42 في الصاخة وجوه مسفرة مستبشرة ووجوه معذبة:
{فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.. وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة..}
فهذه هي خاتمة المتاع. وهذه هي التي تتفق مع التقدير الطويل، والتدبير الشامل، لكل خطوة وكل مرحلة في نشأة الإنسان. وفي هذا المشهد ختام يتناسق مع المطلع. مع الذي جاء يسعى وهو يخشى. والذي استغنى وأعرض عن الهدى. ثم هذان هما في ميزان الله.
والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ، يكاد يخرق صماخ الأذن، وهو يشق الهواء شقا، حتى يصل إلى الأذن صاخا ملحا!
وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه: مشهد المرء يفر وينسلخ من ألصق الناس به: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه}.. أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم؛ ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط تمزيقا، وتقطع تلك الوشائج تقطيعا.
والهول في هذا المشهد هول نفسي بحت، يفزع النفس ويفصلها عن محيطها. ويستبد بها استبدادا. فلكل نفسه وشأنه، ولديه الكفاية من الهم الخاص به، الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}..
والظلال الكامنة وراء هذه العبارة وفي طياتها ظلال عميقة سحيقة. فما يوجد أخصر ولا أشمل من هذا التعبير، لتصوير الهم الذي يشغل الحس والضمير: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}!
ذلك حال الخلق جميعا في هول ذلك اليوم.. إذا جاءت الصاخة.. ثم يأخذ في تصوير حال المؤمنين وحال الكافرين، بعد تقويمهم ووزنهم بميزان الله هناك:
{وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة}..
فهذه وجوه مستنيرة منيرة متهللة ضاحكة مستبشرة، راجية في ربها، مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها. فهي تنجو من هول الصاخة المذهل لتتهلل وتستنير وتضحك وتستبشر. أو هي قد عرفت مصيرها، وتبين لها مكانها، فتهللت واستبشرت بعد الهول المذهل..
{ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة}..
فأما هذه فتعلوها غبرة الحزن والحسرة، ويغشاها سواد الذل والانقباض. وقد عرفت ما قدمت فاستيقنت ما ينتظرها من جزاء.. {أولئك هم الكفرة الفجرة}.. الذين لا يؤمنون بالله وبرسالاته، والذين خرجوا عن حدوده وانتهكوا حرماته..
وفي هذه الوجوه وتلك قد ارتسم مصير هؤلاء وهؤلاء. ارتسم ملامح وسمات من خلال الألفاظ والعبارات. وكأنما الوجوه شاخصة، لقوة التعبير القرآني ودقة لمساته.
بذلك يتناسق المطلع والختام.. المطلع يقرر حقيقة الميزان. والختام يقرر نتيجة الميزان. وتستقل هذه السورة القصيرة بهذا الحشد من الحقائق الضخام، والمشاهد والمناظر، والإيقاعات والموحيات. وتفي كلها هذا الوفاء الجميل الدقيق.. اهـ.